09.12.2019
د. محمد خطيب، “ركاز” مركز البحوث الاجتماعية التطبيقية- جمعية الجليل
أصدر مركز “طاوب” للأبحاث الاقتصادية الاجتماعية مؤخراً تقريراً شاملاً يتطرق فيه الى الوضع الراهن في الدولة بما يتعلق بمناحي الحياة المختلفة كالاقتصاد، التربية والتعليم، الصحة، الرفاه الاجتماعي وغيرهم. وفيما يتعلق بالصحة، يتطرق التقرير الى خدمات الطب الخاصة مقابل خدمات الطب العامة (الجماهيرية) ونتائج الخلط فيما بينهما. كما يتطرق الى التغيرات في تكاليف الصحة وتضارب المصالح الحاصل نتيجة تعدد وظائف ومسؤوليات الدولة الممثلة بوزارة الصحة عن الخدمات الطبية والصحية، وضع المستشفيات من حيث النقص البارز في الأسرّة العلاجية وتوزيع المراكز الطبية المناطقة والمستشفيات جغرافياً في البلاد وعلاقتها بالفجوات القائمة بين مناطق الأطراف ومناطق المركز.
وفي هذه المداخلة السريعة أطمح هنا الى الاشارة لما يعنيه هذا التقرير من حيث الوضع الصحي في المجتمع العربي في إسرائيل من خلال التطرق الى أهم المواضيع الواردة فيه. فوفق هذا التقرير يمكن وصف الجهاز الصحي في إسرائيل بالجيد أو حتى بالممتاز من حيث المبنى والنتائج الصحية. غير أنه يشير الى عدة علامات من شأنها أن تثير الشك والمخاوف من احتمالات التغيير السلبي والتراجع في مستوى الخدمات ونتائجها في المستقبل. ففي الوقت الذي تتزايد فيه الحاجات الصحية بسبب الازدياد السريع بنسبة المسنين في المجتمع والذين يحتاجون بالطبع الى مزيد من الخدمات الصحية (الوقائية، العلاجية والتأهيلية) فإن الاستثمار في الصحة يعاني من التراجع والنقص حيث يصل هذا الاستثمار الى 7% من المنتوج القومي الإجمالي مقارنة ب 8.9% في دول منظمة التعاون والتطوير الاقتصادي (OECD) و11% في الدول التي تملك وتدير جهازاً صحياً مشابهاً للجهاز الصحي الإسرائيلي. بمعنى أن هذا الاستثمار لا يفي بالحاجات المتزايدة لهذه الشريح المهمة في المجتمع. يجب أن نذكر أن هذا التغيير الديمغرافي المتمثل بارتفاع نسبة المسنين هو سيرورة قائمة أيضاً في المجتمع العربي. وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار النقص الكبير الموجود أصلاً بالخدمات الصحية عامة وتلك التي تعنى بالمسنين والمرضى المزمنين العرب خاصة، فإن النتيجة المستقبلية ستكون أكثر سلباً في المجتمع العربي والذي سيعاني بشكل خاص.
كما يشير التقرير الى الارتفاع الكبير في حجم المصروف على الصحة (تكاليف الصحة والعلاج) بحيث أن هذا الارتفاع لا يوازي ولا يماثل الارتفاع العام بالأسعار بل هو أكبر بكثير. ففي حين ارتفع مؤشر الأسعار العام بنسبة 4% في السنوات السبع الأخيرة، فإن مؤشر الأسعار فيما يتعلق بالصحة قد ارتفع بنسبة 9% وذلك نتيجة الارتفاع الحاد في تكاليف الخدمات الصحية بنسبة 20% والتي تشمل (فيما تشمل) الاشتراك الشخصي في تكاليف العلاج، الخدمات المقدمة من خلال التأمين الصحي المكمل والتأمينات الصحية الخاصة والتي تأتي أيضاً نتيجة الارتفاع في أجور الأطباء بنسبة 42% (مقابل 15% في السوق العام). يشار الى أنه وفق التقرير فقد ارتفعت تكاليف خدمات الأسنان أيضاً بنسبة 20%.
وفي ظل الوضع الاقتصادي الصعب حيث يعيش ما يقارب من نصف الأسر العربية (47.1%) تحت خط الفقر (مؤسسة التأمين الوطني، 2018) فإن المواطن العربي هو الذي سيعاني أولاً وبالأساس من هذا الارتفاع في تكاليف الخدمات الطبية والصحية، إضافة الى أن نسبة العرب المالكين للتأمين الصحي المكمل والتأمين الخاص هي 51% (ركاز، جمعية الجليل 2016) وهي أقل من المجتمع اليهودي مع العلم أن 32.2% فقط ممن يملكون هذه التأمينات قد قاموا باستخدامه.
أما بالنسبة للخدمات الصحية فإن التقرير يبرز الفرق القائم بين إسرائيل وباقي دول منظمة التعاون والتطوير الاقتصادي (OECD) من حيث توفر الأسرّة للعلاج في المستشفيات والتي وصلت 3 لكل 1000 نسمة في سنة 2018 مقارنة ب 4.8 في دول ال OECD و- 5.6 لكل 1000 نسمة في الدول التي تملك وتدير جهازاً صحياً مماثلاً لجهاز الصحة الإسرائيلي.
ومن الجدير ذكره، الانخفاض المستمر بالأسرّة العلاجية في المستشفيات عبر السنوات الأخيرة رغم ارتفاع نسبة المسنين وتزايد حاجاتهم الصحية والعلاجية إضافة الى تزايد نسبة المصابين بالأمراض المزمنة الأمر الذي يبرز بشكل خاص في المجتمع العربي حيث تضاعفت نسبة المصابين بالأمراض المزمنة تقريباً في جيل 21 فما فوق في العقد الأخير (16.3% في سنة 2004 الى 29.6% في سنة 2015) (مسوحات مركز “ركاز”، جمعية الجليل). ويعزي التقرير هذا الانخفاض الى التحول من العلاج والعناية بالمسنين في المستشفيات الى العناية بهم في المجتمع والأطر الجماهيرية. وفي هذا السياق يجب الالتفات الى النقص الكبير في الخدمات والأطر العلاجية والتأهيلية للمسنين في المجتمع، الأمر الذي من شأنه أن يمس بشكل خاص بالمسنين العرب حيث أنهم يصطدمون بالنقص بالأسرة العلاجية من جهة وبالنقص بالأطر والخدمات العلاجية والصحية البديلة، الكافية والملائمة في المجتمع.
يبرز التقرير الفجوات القائمة بين المناطق الجغرافية من حيث توفر الأسرة العلاجية في المستشفيات إذ تعاني منطقة الشمال ومنطقة الجنوب من هذا النقص مقارنة بمناطق المركز مع العلم أن حوالي 70% من السكان العرب يسكنون في هذه المناطق، كما أن سكان هذه المناطق يعانون من البعد الجغرافي عن المستشفيات والمراكز الطبية المناطقية حيث يبعد أقرب مركز طبي مناطقي مسافة 45 كم بالمعدل في منطقة الشمال و41 كم بالمعدل في منطقة الجنوب.
وفيما يتعلق بأسباب الوضع الراهن فيشير التقرير الى مسؤولية الدولة ممثلة بوزارة الصحة ومسؤولية مقدمي الخدمات الصحية (صناديق المرضى). أما الدولة فإنها تلعب عدة أدوار متناقضة ينتج عنها تضارب مصالح في إدارة الخدمات الصحية. فهي ما تزال تملك خدمات ومؤسسات علاجية (مستشفيات حكومية، خدمات ووسائل تأهيل وعلاجات وقائية) وفي ذات الوقت فهي مسؤولة عن تمويل هذا الخدمات ومراقبتها وتقييمها!! إضافة لذلك فإن الدولة تقوم بدور المشرّع وبهذا فهي المسؤول الأول عن قانون التأمين الصحي الحكومي بما في ذلك الثغرات الكثيرة في هذا القانون والتي تمكّن وأحياناً تجبر صناديق المرضى بإدارة الخدمات كمنظومة اقتصادية تنافسية و”ربحية”، وبهذا فإنها تزيد وتعمّق الفجوات في الصحة بين المناطق وبين المجموعات السكانية وداخل المجموعات وفق انتماءاتها ووضعها الاقتصادي والاجتماعي.
من جهة أخرى فإن صناديق المرضى، وفي إطار القانون، تخلط بين الطب الخاص والطب الجماهيري العام، ومن خلال التأمينات الصحية المكملة والخاصة، تشجع التوجه الى الطب الخاص للحصول على خدمات أسرع رغم توفرها في إطار سلة الخدمات الأساسية الممولة، وذلك مقابل دفع تكاليف إضافية من الجيب الخاص. وبهذا تتحول عملية اختيار الطبيب المعالج أو الخدمة الطبية الى عملية متعلقة بالقدرات الاقتصادية للفرد أو الأسرة مما يتناقض مع مبادئ قانون التأمين الصحي الحكومي التي تقضي بتأمين المساواة والعدالة الاجتماعية ويعمّق الفجوات القائمة في الصحة. إضافة لذلك، فإن الكثير من الأموال يتم رصدها واستثمارها في تطوير وتقوية قطاع الطب الخاص على حساب القطاع الطبي الجماهيري العام من حيث تطوير البنى التحتية ومنح الامتيازات المالية في الأجور ومقابل علاجات مختلفة للأطباء مما يشجع التوجه والعمل في القطاع الطبي الخاص والخدمات الخاصة.
للتلخيص، فإن تقرير مركز “طاوب” يضع الأصبع على عدة جوانب وإشكالات مهمة تعتري جهاز الصحة في إسرائيل وتساهم في تفسير وفهم الفجوات القائمة والمعروفة في الصحة وهي مهمة كأساس للتخطيط الاستراتيجي المستقبلي. غير أن هذا التقرير يتمحور بالخدمات الطبية والصحية دون التطرق الى الوضع الصحي والفوارق الموجودة في العديد من المقاييس الصحية المعتمدة بين العرب واليهود مثلاً أو داخل هذه المجموعات. كما أنه لا يتطرق الى الوضع القائم من حيث القوى العاملة البشرية في الجهاز الصحي والى مدى توفر خدمات صحية مهمة وعديدة أخرى مثل خدمات التأهيل والصحة النفسية. وعليه فإن البيانات التي يوفرها التقرير رغم أهميتها تبقى منقوصة إذا ما أردنا اعتمادها للتخطيط والعمل لتحسين الجهاز الصحي والوضع الصحي عامة لكافة فئات المجتمع في إسرائيل.